امنة النصيري:  الاتّساق المذهل بين الفنانة و الإنسانة

المقال نشر على موقع خيوط بتاريخ ٢٩ ابريل ٢٠٢٠

   كنتُ في الثامنة من العمر، عندما زرتُ بيتَ الدكتورة آمنة النصيري. أستدعيها في ذاكرتي، وهي ترسم لوحةً كبيرةً بها سمكتان، وبدتْ متأنّيةً في اختيار اللون المناسب. كنتُ، وقتها، طفلةً مملوءةً بالحيوية. ونجحَت الدكتورة آمنة في جذب اهتمامي؛ حيث ناولتْني ورقةً وقلماً وفرشاةَ ألوانٍ، وطلبتْ مني أن أرسم أسماكاً معها. بينما انهمكَت الدكتورة في رسم السمكتيْن بأسلوبها السهل الممتنع، رسمتُ أنا العشراتِ من الأسماك المتنافرة. وبينما لاحظَت الدكتورة استعجالي وإحباطي من اختيار الألوان، عاملتْني كإنسانةٍ راشدةٍ، وبدأتْ بشرح أهمية اختيار الألوان لأي لوحةٍ فنيةٍ، وأهمية جمالها. بل إنها طلبتْ مني أن أفكر معها في الألوان المناسبة للوحتها؛ قبل أن توجّه بعض الملاحظات على رسومي، مبيّنةً الجوانبَ التي تحتاج إلى تعديلٍ أو إضافةٍ أو إلغاء. وهكذا، عرفتُ الدكتورة آمنة التي تتحاور مع أي شخصٍ يمسك بالفرشاة بتقديرٍ وبشكلٍ هادئٍ، وبدون ادعاءٍ؛ وهو الأمر الذي وسَمَها كأستاذةٍ قبل كونها فنانة.

   حظيتُ بفرصٍ عديدةٍ للتعلم من الدكتورة آمنة، وفي بيتهاـ وهناك، لم أحْظَ فقط برؤيتها وهي ترسم؛ بل والسماح لي بمطالعة مكتبتها الخاصة، التي ضمّتْ مؤلفاتٍ عن حركات الفن الحديث والفلسفة اليونانية والشرقية. وكان من بين ما أدهشني، لوحاتُها الأولى التي رسمتْها عندما كانت طالبةً في أكاديمية الدولة للفنون في موسكو. لوحاتُها القديمة مرسومةٌ بالرصاص أو الفحم، ومعظمها لوحاتٌ واقعيةٌ وبورتريهات (لوحات شخصية). وبسبب المفارقة في أسلوبَيْ رسْمِها (القديم والحالي)، تجرأتُ على سؤالها عن سبب ذلك.

   النظرة العابرة لهذا الاختلاف قد تَحمِل مَنْ لا يعرف كثيراً عن الفن على الشعور بأن أسلوبها الجديد أكثر بساطةً ويسراً من أسلوبها القديم؛ وهو شعورٌ، في الحقيقة، خاطئٌ. فاليد التي أتقنت الرسم والتصوير، يصعب عليها أن تعود إلى الخطوط البدائية؛ الأمر نفسه الذي لاحظتُه، في كتابٍ سميكٍ في مكتبتها، أزرقِ الغلاف موثِّقٍ أعمالَ وحياةَ الفنان الإسباني بابلو بيكاسو. طبيعيٌّ أنني في تلك السن لم أستطع حتى قراءة الكتاب، ولكنّي انغمست في تقليب صفحاته الساحرة وأسلوبه الفني الذي تغيّر كثيراً في كافة مراحل أعماله.

   ومثل بيكاسو، فإن الدكتورة آمنة النصيري بدأتْ بنفس الأسلوب الواقعي، وصولاً إلى مرحلة الخطوط السريالية أو ما بعد الواقعية. ولما لاحظَت الدكتورة آمنة اندماجي مع لوحات بيكاسو، شرحتْ لي ببساطةٍ تتناسب مع عمري وفهمي كيف أن كبار الفنانين مروا بمراحلَ مختلفةٍ في حيواتهم الفنية؛ حيث تعلقوا في كل مرحلةٍ منها برموزٍ وألوانٍ وخطوطٍ معينةٍ، كرّروها بهوسٍ وشغف. وأوضحتْ كلامها من خلال شرحها المرحلةَ الزرقاءَ التي مرّ بها بيكاسو، المتضمنة في كتابه الأثير. كل الفنانين، الذين تركوا بَصَماتٍ خالدةً في الفن، بدؤوا مسيراتهم الفنية بإتقان كل قوانين الرسم التقليدية، ومن ثم أمضَوا بقية حياتهم في تحديها.

آمنة النصيري ليست رسامةً فقط، بل محاضرةٌ جامعيةٌ، وتلفزيونيةٌ متخصصةٌ في الفن عبر برنامج "تشكيل"، وكاتبةٌ ومحررةٌ في مجلة "تشكيل"، وكاتبةٌ في عددٍ من الصحف والدوريات. كما أسست مَرْسم "كون" للثقافة وتنمية الذائقة البصرية

  لو لم تُتح لي فرصةُ الاطلاع على مكتبتها -سواء عن بيكاسو أو غوستاف كليمت أو بولوك وغيرهم من الفنانين- فإنه كان مستحيلاً أن تتاح لي فرصةٌ أخرى في اليمن؛ حيث لا يوجد اهتمامٌ ولا إمكانيةٌ لدراسة هذه الشخصيات الكبيرة في سن الصبا. واستمررتُ في التعلم من الدكتورة آمنة النصيري في فترة مراهقتي، وحيث كانت الدكتورة قد غيرت من أسلوبها في الرسم. مرت الدكتورة بمراحلَ مختلفةٍ، واستخدمت تقنياتٍ وألواناً مختلفةً، كالحبر الصيني على الورق، أو طباعة الشاشة الحريرية. كما استخدمتْ أنواعاً متعددةً من الطلاء. وإلى ذلك، أدخلتْ واستخدمت الحيوانات بشكلٍ رمزيٍّ، كالقطط والظباء والطيور، وركزتْ على المعمار اليمني بنقوشه المختلفة، واستخدمت خط المسند ورموز الحضارة اليمنية القديمة والخط العربي. وفي مراحل أخرى، ركزتْ على الأشجار المتداخلة ببعضها. كانت كلُّ فترة مرت بها أعمال الدكتورة آمنة متميزةً بألوانها ومدلولاتها ذات الصلة بحالتها الوجدانية كفنانة. وعندما بلغَت الرابعة عشرة، كان جلُّ أعمال الدكتورة "المرأة"  في لوحاتٍ تشكيليةٍ، مستخدمةً طلاء الإكريليك والألوان الزاهية؛ وهو الأمر الذي تغيّر في العام ٢٠١١ إلى الألوان المعتمة والعيون الفارغة.

   وُلدت الأستاذة آمنة النصيري في مدينة رداع، وحظيتْ بتشجيعٍ خاصٍّ من والدتها التي حظيتْ بنصيبٍ من التعليم لخوض مجال الفن؛ وهو ما لم يكن مألوفاً وقتها. حصلتْ آمنة على شهادة دكتوراه فلسفةٍ في الفـن والنقد الفني من موسكـو، وشاركتْ في أول معرض خارج اليمن، في (بغداد) العراق عام 1986، وقضتْ عدة سنواتٍ من حياتها في التدريس بجامعة صنعاء، قسم التكنولوجيا والإعلام والهندسة. وبالإضافة إلى أقامتها عدةَ ورشاتٍ تعليميةٍ في الرسم للأطفال والكبار، فإن الدكتورة أمنة لم تكن رسامةً فقط؛ بل كانت مُحاضِرةً تلفزيونيةً متخصصةً في الفن (برنامج تشكيل)، وكاتبةً ومحررةً لمجلة "تشكيل"، وكاتبةً في عددٍ من الصحف والدوريات، وكذلك أسستْ مَرْسم "كون" للثقافة وتنمية الذائقة البصرية.

   لم تكن الدكتورة آمنة معلمتي الأولى في الرسم فحسب؛ بل إنها أصبحتْ أستاذتي في الفكر والفلسفة. تعلمتُ منها بأن الفن أداةٌ سياسيةٌ، وأن اللوحات الجادة لا يمكن أن تخلو من فلسفة. شجّعتني على رسم لوحاتٍ تمسّ قضايا هامةً بالنسبة لي، فرسمتُ لوحةً كبيرةً تحت إشرافها على خشب، باستخدام الإكريليك والقماش اليمني والجص، عن زواج الصغيرات في اليمن. لسوء الطالع، لم أحظَ باستمرار تلقّي الإشراف والنصح والتعليم من الدكتورة آمنة؛ نظراً لتنقُّلي الدائم خارج اليمن.ـ وحُرمتُ من الاستزادة والاستفادة من نصائحها القيّمة من بحر اختصاصها الرفيع.

تبقى الدكتورة والفنانة الكبيرة آمنة النصيري أستاذتي ومرشدتي الأولى. ومثل مئات اليمنيين واليمنيات، فتحتْ لنا الدكتورة آمنة منزلها ومراسمها "الأتيليه" وقلبها الكبير.